الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

خصائص المقاصد الشرعية

المبحث الأول : الخصائص الأصلية
المبحث الثاني :الخصائص الفرعية


المبحث الأول : الخصائص الأصلية



المطلب الأول : خاصية الربانية



المراد بهذه الخاصية : أن مقاصد الشريعة مقاصد منزلة من عند الله عز وجل ،فهي من عند عليم حكيم ،عليم بطبائع النفوس وميولها ونزعاتها ،قال تعالى : (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ )([1]) ،فبصدورها منه سبحانه يجعل تلك المقاصد في غاية الكمال والإتقان والإحكام  صالحة لكل زمان ومكان،إضافة إلى
ما هو متصف به سبحانه من صفات الكمال الأخرى ،كالعدل والرحمة والإحسان.
وهذا وحده كافٍ لإبطال كل مقارنة لها بغيرها ،ففرق بين الخالق والمخلوق ،وأحكام البشر - على فرض حسن القصد فيها –تتأثر بالزمان والمكان الذي تصدر فيه ،والمذهب الذي تعتنقه ،وهذا ما نراه في واقع الشرق والغرب اليوم ،ففي كل يوم يكتشفون خللاً في أحكامهم وقوانينهم ،قال تعالى : (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ )([2]) ([3]).
وهذه الخاصية ينبثق عنها جميع الخصائص الأخرى ،كما سيأتي في المبحث الثاني.



المطلب الثاني :
مراعاة الفطرة وحاجة الإنسان



المقصود بالفطرة :هي الجبلة التي خلق الله الناس عليها ،والنظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ،فهي الغرائز التي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان ،ولا تحسن إدارتها وتوجيهها إلى الخير والصلاح إلا بعد الإحاطة بها .
وليس هذا إلا في منهج الإسلام الذي يعرف دروب هذه النفس وحاجاتها ،ومداخلها ومخارجها ،وقدراتها وطاقاتها ،فلا يتجاوزها أبداً ([4]).
ولكي تتضح  هذه الخاصية لابد من بيان أمرين :
أولاً :موقف الشريعة الإسلامية من الفطرة :
إذا كان خالق الفطرة هو منزل هذه الشريعة فمن الطبعي يقيناً أن تكون موافقة للفطرة ،منظمة لها واضعة الحدود والضوابط الكفيلة باستقامتها ،ويدل على موافقتها قوله تعالى : (ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ )([5]) فالفطرة هنا هي الإسلام([6])،وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء :(أتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر فيه خمر ....هُديت إلى الفطرة أو أصبت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )([7])




ومن الأمثلة على مراعاتها للفطرة :تشريع التملك ، فالإنسان مفطور على حب التملك قال تعالى : (ﯝﯞ ﯟ ﯠ )([8]) ،وكذلك شرع النكاح لما في فطرة الطرفين من الميل للآخر ،كما راعى الضعف الموجود في الإنسان قال تعالى : (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ )([9]) .
و مع مراعاتها للفطرة إلا إنها رسمت الضوابط والقيود التي تكفل سلامتها ،فلم تكبتها ولم تطلق لها العنان([10]) .
ثانياً : أثر مراعاة الفطرة  في مقاصد الشريعة :
ويتجلى من وجهين :
1)   أن مقاصد الشريعة جاءت بالمحافظة على الفطرة واستقامتها ، وكل ما يفضي إلى خرق فيها يعد محذوراً وممنوعاً .
2)   أن المحافظة عليها أكسب مقاصد الشريعة خصائص أخرى من الثبات والعموم والاتزان ونحوها ،حيث أن فطرة الناس واحدة من آدم إلى قيام الساعة ،قال تعالى : (ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ )([11]) ([12]).








المبحث الثاني : الخصائص الفرعية

وفيه ستة مطالب :

المطلب الأول : خاصية العموم والاطراد.

المطلب الثاني : خاصية الثبات (الأبدية) .

المطلب الثالث : خاصية التوافق والانسجام والعصمة من    التناقض .

المطلب الرابع : خاصية قصد المصلحة مطلقاً والبراءة من التحيز والهوى .

المطلب الخامس : خاصية الانضباط والتوازن .

المطب السادس : خاصية الاحترام والقداسة .






المطلب الأول :
خاصية العموم والاطراد.



والمراد بالعموم :أي أن هذه المقاصد شاملة لجميع أنواع التكليف ،والمكلفين ،والأحوال والأزمان والأمكنة ،شاملة لنواحي الحياة المختلفة ،دينية وسياسية واجتماعية وخلقية وغيرها ،دقيق القضايا وكبيرها ،فنجد العدل مثلاً مطلوب بين الزوجات والأولاد كما أنه مطلوب في القضاء بين الناس ،وأيضاً شاملةً لكل ما يصلح الدنيا والآخرة ،لجميع الخلق ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )([13]) ،ولقد أتم الله هذا الدين وأكمله ،قال تعالى : (ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ)([14]) ،فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يُدعى إلا والشريعة حاكمة ،وإن وقع لبعض نصوصها خصوص ما فهو راجع إلى عموم آخر ،كالعرايا([15]) مثلاً فإنه راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها وهي أمور عامة ،فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة([16]) .
أما الاطراد :ألا يكون المعنى مختلف باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار ،مثل وصف الإسلام والقدرة على النفقة في تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة المشروطة في النكاح ،وبما أن الشارع قصد إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه لا تختل لها به نظام فيلزم أن تكون كلية وعامة في جميع لأحوال والأزمان([17]) .
المطلب الثاني :
خاصية الثبات (الأبدية)


وهذه الخاصية منبثقة من الخاصية الأساس خاصية الربانية ،ومعنى هذا :أن مقاصد الشارع راسخة الأساس ،ثابتة الأركان ، لا تتصادم مع حال أو مكان أو زمان ،محفوظة أصولها وفروعها ،قال تعالى : (ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ )([18]) ،فما أثبت سبب فهو سبب أبداً لا يرتفع ،وما كان واجب فهو واجب أبداً لا يرتفع ،أو مندوب فهو مندوب وهكذا ، لم تتعرض قواعدها الكلية للنسخ ،ليتمكن من إرجاع الجزئيات إليها عند الاشتباه والاختلاف فيخضع المتغير للثابت([19]) .

المطلب الثالث :
التوافق والانسجام والعصمة من التناقض


ويظهر ذلك مما يلي :
1)   واقع المقاصد ، إذا تتبعنا المقاصد وقارنا بينها لم نجد إلا التآلف والتوافق ، فهي من لدن حكيم خبير .
2)   نفي الاختلاف في نصوص الشريعة ، فهذا دليل على نفي الاختلاف في مقاصد الشارع ، قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)([20]) أي لو كان من عند غير الله لوقع الاختلاف الكثير والتناقض .
3)   مصدر المقاصد هو العالم المحيط بكل شيء ، المتفرد الذي لا يشاركه أحد في حكمه وصنعه ، وإذا كان مصدر المقاصد هو من كان بهذه الصفات فإن وضعها في الآلف والتوافق مقطوع به ، إذ أن الاختلاف والتناقض إنما يقع من جاهل أو غافل أو من واضعين متعددين تختلف مآربهم ونزعاتهم([21]) .


المطلب الرابع :
قصد المصلحة مطلقاً والبراءة من التحيز والهوى


المعتبر في الشرع هو جهة المصلحة ، التي هي عماد الدين والدنيا ،ولا شك أن المنافع الحاصلة للمكلف قد تكون مشوبة عادة للمكلف ، والعكس كذلك ، كالأكل والشرب في حياة النفوس ، هذه منفعة مع أنه لا يخلو من المشاق والآلام في تحصيله .
تتميز مقاصد الشريعة بقصدها المصلحة مطلقا ،وجاءت الشريعة لتخرج الإنسان من عبادة هواه ليكون عبدا لله سبحانه ، ذلك أن الهوى لا ينضبط معه أمر ولا يستقيم به حال ، ولذلك قال تعالى : (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)([22])  ، ثم إن الهوى سبب من أسباب التناقض والاختلاف وهما منتفيان عن مقاصد الشارع .
ولا يخفى أن تشريعات البشر وأنظمتهم لابد وأن يداخلها الهوى والتحيز إلى جهة ،وعند إذن تقع في الانحراف عن الحق والعدل من حيث لا تعلم([23]) .



المطلب الخامس :
الانضباط والتوازن


والمراد بالانضباط : أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه ، فهي منضبطة بضوابط وقيود ، بحيث يكون القدر الصالح منه لأن يعتبر مقصدا شرعيا قدرا غير مشكك فيه ، مثل : حفظ العقل إلى القدر الذي يخرجه العاقل عن تصرفات العقلاء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند السكر .
فلو ترك الأمر إلى نظر الناس وما يقدرونه لتباينت التقديرات ، ولتفاوتت الأنظار ، فيقع الإفراط أو التفريط ، ونتيجة ضبط الشارع وجوه المصالح يحصل التوازن والوسطية ، مثلا : لم يقل إن المقصود من الحدود الزجر بدون ضبط ولا قيد ، فضوابط الأحكام تفي بمقاصدها من غير زيادة أو نقصان .
وبهذا يظهر لنا ان الضبط في المقاصد الشرعية يحقق أمرين :
1)   أنه يخلصها من الإفراط والتفريط ، ويضفي عليها سمة التوسط والاتزان .
2)   أنه يجعلها سهلة التطبيق ، فببيان حدودها ومعالمها وشروطها وضوابطها سهل تحقيقها([24]) .







المطلب السادس :
الاحترام والقداسة



مما لاشك فيه أن شريعة الخالق لها احترام وقداسة ليست للشرائع الوضعية ،وذلك لعدة أمور منها :
1)   أن مشرعها هو رب العالمين ،الذي سيحاسبهم عليها وهو بكل شئ عليم ،حتى لو اختفى الإنسان عن الأنظار فإنه يوقن أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ،فيستعظم أمر معصية الله تبارك وتعالى .
2)   أنها لا تقتصر على الدنيا ، بل تمتد إلى الحياة الأخروية التي لا يمكن الإفلات منها ،فلو سلم من العقوبات الدنيوية فلن يسلم من الأخروية ـ إلا أن يشاء الله ـ بل الأخروية أعظم ،لذلك يبقى معظماً لحدود ربه .
3)   أنها تحقق المصلحة للعبد ،وفي مخالفتها الشقاء والبلاء ،فداعي العقل والفطرة يدعوان إلى التمسك بها ،فضلا عن داعي الشرع ([25]).  


















المراجع والمصادر

1)إحكام الأحكام شرح عمدة الاحكام ،ابن دقيق العيد ،مؤسسة الرسالة ،ط الأولى  1426هـ
2)الاجتهاد المقاصدي حجته ضوابطه مجالاته،نور الدين الخادمي ،2وزارة الشؤون الإسلامية ،قطر ،1419هـ.
3)جامع البيان في تأويل القرآن ،محمد بن جرير الطبري ،تحقيق أحمد شاكر،مؤسسة الرسالة ،ط الأولى 1420هـ
4)الجامع لأحكام البيان ،محمد القرطبي.
5)علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة  ،ط الأولى 1423 ،الرياض .
6)مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد اليوبي،دار الهجرة ،ط الأولى 1418هـ الرياض.
7)مقاصد الشريعة ، ابن عاشور ،تحقيق محمد الميساوي ،دار النفائس ،الأردن ،ط الثانية 1421هـ
8)نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور ، إسماعيل الحسني ،المعهد الإسلامي للفكر الإسلامي.
9)الموافقات ،إبراهيم الشاطبي ،تقديم بكر أبو زيد ،ضبطه وعلق عليه أبو عبيده آل سلمان ،دار ابن عفان
10)مقاصد التشريع الإسلامي مفهومها ضرورتها ضوابطها،نور الدين الخادمي ،ص5.
      



([1])  النساء:176.
([2])  المائدة:50.
([3]) انظر :علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة ،ص 225 ،ط الاولى 1423 ،الرياض .مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد اليوبي، ص 422-424 ،دار الهجرة ،ط الاولى 1418هـ الرياض.الإجتهاد المقاصدي حجته ضوابطه مجالاته،نور الدين الخادمي ،2/26 ،وزارة الشؤون الاسلامية ،قطر ،1419هـ.
([4])  انظر :مقاصد الشريعة ، ابن عاشور ،ص 261 ،تحقيق محمد الميساوي ،دار النفائس ،الأردن ،ط الثانية 1421هـ .احكام الأحكام ، ابن دقيق العيد ،ص 61 .
([5])  الروم:30.
([6]) انظر : تفسير الطبري ،20/97 . تفسير القرطبي ، 14/24 .
([7]) رواه البخاري ،كتاب الأنبياء ،باب ذكر الكتاب مريم 3394 .و مسلم ،كتاب الإيمان ،باب الإسراء 272 . 
([8])  الفجر:20.
([9])  النساء:28.
([10]) انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ،محمد اليوبي ،ص425-426 .
([11])  الروم:30.
([12])  انظر : مقاصد الشريعة ،ابن عاشور،ص265 .نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور ، اسماعيل الحسني ،ص 267 ،المعهد الاسلامي للفكر الاسلامي. مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ،محمد اليوبي  ،ص429 .
([13]) رواه اليخاري ،كتاب التيمم،باب قوله تعالى:( فلم تجدوا ماء..) .ومسلم ،كتاب المساجد .
([14])  المائدة:3.
([15])  العرايا :هي بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر.مع أن فيه جهالة بتساوي النوعين الربويين .
([16]) انظر :الموافقات ،ابراهيم الشاطبي ،2/62 ،تقديم بكر ابو زيد ،ضبطه وعلق عليه ابو عبيده آل سلمان ،دار ابن عفان. نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور ، اسماعيل الحسني  ،ص273 . مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ،محمد اليوبي،ص432.
([17])  انظر : مقاصد الشريعة ،ابن عاشور،ص253 .علم مفاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة ،ص231 . مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ، محمد اليوبي  ،ص432.
([18])  الحِجر:9.
([19]) انظر :الموافقات ، الشاطبي  . علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة  ،ص233 . الاجتهاد المقاصدي ، نور الدين الخادمي  ،ص23 .مقاصد التشريع الإسلامي مفهومها ضرورتها ضوابطها،نور الدين الخادمي ،ص5.
([20])  النساء:82
([21]) انظر : علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة  ،ص237  مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ، ، محمد اليوبي  ،ص439.
([22])  المؤمنون:71.
([23]) انظر :الموافقات ،الشاطبي ،2/63 .الاجتهاد المقاصدي ،  ،2/23 علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة ،ص239  مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ، محمد اليوبي  ،ص440..
([24]) انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ،ابن عاشور ،ص253 . الاجتهاد المقاصدي ، نور الدين الخادمي  ،2/23 علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة  ،ص240  مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ، محمد اليوبي  ،ص442..

([25]) انظر : الاجتهاد المقاصدي ، نور الدين الخادمي  ،2/26 علم مقاصد الشارع ، عبدالعزيز الربيعة ،ص241  . مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة ، محمد اليوبي  ،ص441..



ليست هناك تعليقات: